فصل: أوّلاً: الخفارة بمعنى: الجعُل، أو الحراسة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


خطر

التّعريف

1 - الخَطَر بفتحتين في اللّغة، الإشراف على الهلاك وخوف التّلف‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أمر خطر أي متردّد بين أن يوجد، وأن لا يوجد، ويطلق على السّبق الّذي يتراهن عليه‏.‏ والمخاطرة، المراهنة، وخاطرته على مال راهنته عليه وزناً ومعنىً‏.‏ وخطر الرّجل‏:‏ قدره، ومنزلته، فيقال‏:‏ رجل خطير أي ذو شأن‏.‏ والخاطر‏:‏ هو اسم لما يتحرّك في القلب من رأي أو معنىً، يقال‏:‏ خطر ببالي كذا، أي وقع فيه‏.‏ ولا يخرج الخطر في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ تعريض النّفس لخطر الهلاك حرام، لأنّ حفظها من أهمّ مقاصد الشّريعة‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏‏.‏

قال الخازن‏:‏ كلّ شيء في عاقبته هلاك، فهو تهلكة‏.‏ وقال عزّ من قائل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

وعن «عمرو بن العاص رضي الله عنه قال‏:‏ احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السّلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت ثمّ صلّيت بأصحابي الصّبح، فذكروا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا عمرو، صلّيت بأصحابك الصّبح وأنت جنب‏؟‏ فأخبرته بالّذي منعني من الاغتسال، وقلت‏:‏ إنّي سمعت اللّه يقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏}‏ فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً»‏.‏

ويتعلّق بالخطر الرّخص الشّرعيّة، فيباح بالخطر أكل الميتة للمضطرّ، وأكل سائر النّجاسات والخبائث اضطراراً، وإساغة الغصّة بالخمر لدفع الخطر عن النّفس، ويجب قطع العضو المتآكل إذا كان في تركه خطر على النّفس ‏(‏ر‏:‏ ضرر، مشقّة‏)‏‏.‏

الخطر المؤثّر في إسقاط العبادات أو تخفيفها

3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المشقّة تجلب التّيسير عموماً، وأنّ المشقّة إذا بلغت حدّ الخطر على النّفس والأطراف ومنافعها توجب التّرخيص، والتّخفيف‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ حفظ المهج والأطراف لإقامة مصالح الدّين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات، يفوت بها أمثالها‏.‏

فيجب التّيمّم إذا كان في استعمال الماء في الوضوء والاغتسال من الجنابة خطر على نفس، أو عضو أو منفعته، أو حال بينه وبين الماء عدوّ، أو سبع، لأنّ إلقاء النّفس في التّهلكة حرام‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ تيمّم، مرض‏)‏‏.‏

ويسقط وجوب الحجّ إذا كان في السّفر خطر على نفس، أو عضو، أو عرض، أو مال، كما يحرم ركوب البحر لأداء الحجّ إن غلب الهلاك فيه، أو تساوى الهلاك والسّلامة لما فيه من الخطر ‏(‏ر‏:‏ حجّ‏)‏

ويسقط الصّوم عن المرضع والحامل، والمريض، إذا كان في الصّوم خطر على المرضع والحامل، أو على الرّضيع والجنين، أو خاف المريض الموت، أو زيادة المرض ‏(‏ر‏:‏ صوم‏)‏‏.‏

والأصل في ذلك قوله تعالى ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ وفي تعريض النّفس والأعضاء للخطر، حرج أيّ حرج‏.‏

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ‏}‏، قال‏:‏ إذا كان بالرّجل الجراحة في سبيل اللّه، والقروح، فيخاف أن يموت إن اغتسل تيمّم‏.‏ وعن جابر قال‏:‏ «خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منّا حجر فشجّه في رأسه، ثمّ احتلم فسأل أصحابه فقال‏:‏ هل تجدون لي رخصةً في التّيمّم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما نجد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء‏.‏ فاغتسل فمات‏.‏ فلمّا قدمنا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال‏:‏ قتلوه قتلهم اللّه، ألا سألوا إذ لم يعلموا‏؟‏ فإنّما شفاء العيّ السّؤال‏.‏ إنّما يكفيه أن يتيمّم، ويعصب» فاعتبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك قتلاً، واللّه يقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

4 - ويستثنى من قواعد درء الخطر، الجهاد، فيجوز المخاطرة بالنّفس فيه، لأنّه قرّر مع المشقّة‏.‏ وما الجهاد إلاّ بذل الوسع، والطّاقة بالقتال أو المبالغة في القتال، لهذا حرم انهزام مائة من المسلمين عن مائتين من الكفّار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ‏}‏ وجاء في الأثر «عجب ربّنا من رجل غزا في سبيل اللّه، فانهزم - يعني أصحابه - فعلم ما عليه، فرجع حتّى أهريق دمه، فيقول اللّه تعالى لملائكته‏:‏ انظروا إلى عبدي رجع رغبةً فيما عندي، وشفقةً ممّا عندي، حتّى أهريق دمه»‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ جهاد‏)‏‏.‏ ويستثنى أيضاً دفع الصّائل على النّفس أو المال أو العرض ‏(‏ر‏:‏ صيال‏)‏‏.‏

التّعرّض للخطر بإزالة غدّة، أو عضو متآكل

5 - يحرم على الشّخص قطع غدّة أو عضو متآكل، إذا كان في القطع خطر على النّفس، وليس في بقائهما خطر أو زاد خطر القطع، وإن كانت تشينه، لأنّه قد يؤدّي إلى هلاك نفسه‏.‏ أمّا إذا لم يكن في إزالتها خطر فله إزالتها، لإزالة الشّين‏.‏

وإن تساوى الخطران، أو زاد خطر التّرك فله قطعها‏.‏ وإن قطعهما أجنبيّ بلا إذن، فمات المقطوع منه لزمه القصاص، وكذا السّلطان لتعدّي كلّ منهما بذلك‏.‏

وللأب والجدّ قطع الغدّة والعضو المتآكل، من الصّبيّ والمجنون مع الخطر في القطع إن زاد خطر التّرك عليه، لأنّهما يليان صون مالهما عن الضّياع فبدنهما أولى‏.‏ فإن تساوى الخطر والسّلامة، أو زاد خطر القطع، ضمنا لعدم جواز القطع‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏ضمان، وإتلاف‏)‏‏.‏

عقود المخاطرة

6 - عقود المخاطرة هي ما يتردّد بين الوجود والعدم، وحصول الرّبح أو عدمه عن طريق ظهور رقم معيّن مثلاً، كالرّهان والقمار‏.‏ ونحوهما السّبق لكنّه مشروع بشروط، وتفصيل ذلك في مصطلحاته‏.‏

خفاء

التّعريف

1 - الخفاء في اللّغة من خفيت الشّيء أخفيه إذا كتمته أو أظهرته، فهو من الأضداد، وشيء خفيّ‏:‏ خاف، ويجمع على خفايا، وخفي عليه الأمر يخفى خفاءً، وخفي الشّيء يخفى خفاءً بالفتح والمدّ‏.‏

وبعضهم يجعل حرف الصّلة فارقاً فيقول‏:‏ خفي عليه‏:‏ إذا استتر، وخفي له‏:‏ إذا ظهر‏.‏ والفقهاء يستعملونه بمعنى الاستتار وعدم الظّهور، وهو عند الأصوليّين، يكون في الألفاظ الّتي يخفى المراد منها بسبب في الصّيغة أو خارج عنها على ما سيأتي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاشتباه‏:‏

2 - الاشتباه‏:‏ الالتباس، واشتبهت الأمور وتشابهت، التبست فلم تتميّز ولم تظهر، والمتشابهات من الأمور‏:‏ المشكلات‏.‏

والخفاء قد يكون سبباً من أسباب الاشتباه إمّا لتعدّد المعاني المستعملة للّفظ، أو لإجمال اللّفظ واحتياجه إلى البيان وغير ذلك‏.‏

ب - الجهل والجهالة‏:‏

3 - الجهل والجهالة‏:‏ عدم العلم بالشّيء‏.‏

قال الجرجانيّ‏:‏ الجهل هو اعتقاد الشّيء على خلاف ما هو عليه‏.‏

وخفاء الشّيء يترتّب عليه إمّا الجهل بوجوده أصلاً، كمن ينكر وجوب الزّكاة جهلاً منه لحداثة عهده بالإسلام، وإمّا الجهل بمكان الشّيء، كمن علم في ثوبه نجاسةً، وخفي عليه مكانها‏.‏

ما يتعلّق بالخفاء من أحكام

أوّلاً‏:‏ عند الأصوليّين

4 - يقسّم الأصوليّون اللّفظ باعتبار خفاء المعنى ومراتب الخفاء إلى أربعة أقسام‏:‏

الأوّل‏:‏ الخفيّ، وهو ما اشتبه معناه وخفي مراده ‏(‏أي الحكم الشّرعيّ‏)‏ بعارض غير الصّيغة، فالخفاء ليس في اللّفظ، ولكنّه بسبب عارض، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا‏}‏ فلفظ السّارق ظاهر في كلّ سارق لم يعرف باسم آخر، لكنّه بالنّسبة للطّرّار الّذي يسرق بشقّ الثّوب، والنّبّاش فيه نوع من الخفاء، لاختصاص كلّ منهما باسم غير السّارق‏.‏

وإزالة الخفاء تحتاج إلى نظر وتأمّل، وبالتّأمّل يظهر أنّ الخفاء قد يكون لزيادة في المعنى الّذي تعلّق به الحكم كما في الطّرّار، فإنّه سارق كامل يأخذ من حضور المالك، ويقظته فله مزيّة على السّارق، لأنّ السّارق يأخذ على سبيل الخفية، ولذلك يأخذ الطّرّار حكم السّارق فيقطع، وهذا باتّفاق‏.‏

وقد يكون الخفاء لنقص في المعنى الّذي تعلّق به الحكم كما في النّبّاش الّذي يسرق أكفان الموتى، ففيه شبهة نقصان الحرز، وعدم الحافظ له، ولذا اختلف الفقهاء في حكمه فيقطع عند الجمهورالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف، ولا يقطع عند أبي حنيفة ومحمّد‏.‏

5- الثّاني‏:‏ المشكل‏:‏ وهو اسم لمّا يشتبه المراد منه بدخوله في إشكاله على وجه لا يعرف المراد منه إلاّ بدليل يتميّز به من سائر الأشكال‏.‏

وقال القاضي أبو زيد الدّبّوسيّ‏:‏ هو الّذي أشكل على السّامع طريق الوصول إلى ما فيه من المعاني، لدقّة المعنى في نفسه لا بعارض‏.‏

فالخفاء في المشكل إنّما هو بسبب ذات اللّفظ، ولا يفهم المراد منه ابتداءً إلاّ بدليل من الخارج، كاللّفظ المشترك بين معنيين ولا معيّن لأحدهما، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ فلفظ ‏{‏أَنَّى‏}‏ مشترك بين معنيين لاستعماله كأين وكيف، لكن بعد التّأمّل والطّلب ظهر أنّ المراد ‏(‏كيف‏)‏ دون ‏(‏أين‏)‏ بقرينة الحرب، ودلالة تحريم القربان في الأذى العارض، وهو الحيض، فإنّه في الأذى اللّازم أولى‏.‏

6- الثّالث‏:‏ المجمل‏:‏ وهو ما خفي المراد منه بنفس اللّفظ خفاءً لا يدرك إلاّ ببيان المجمل كلفظ الصّلاة والزّكاة والرّبا‏.‏ فالسّبيل إلى معرفة المراد منه هو بيان الشّارع، كالصّلاة مثلاً فقد بيّنت السّنّة المراد بها في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»‏.‏

7- الرّابع‏:‏ المتشابه‏:‏ وهو ما خفي بنفس اللّفظ ولا يرجى دركه أصلاً، كالمقطّعات في أوائل السّور وبعض صفات اللّه تعالى الّتي وردت في الكتاب والسّنّة‏.‏

هذا، والخفيّ هو أدنى مراتب الخفاء، وحكمه الطّلب، أي الفكر القليل لنيل المراد‏.‏

ويليه المشكل في الخفاء، وحكمه التّكلّف والاجتهاد في الفكر‏.‏

ويليه المجمل، وحكمه الاستفسار وطلب البيان من المجمل‏.‏

ويلي ذلك المتشابه، وهو أشدّ خفاءً وحكمه التّوقّف والتّسليم والتّفويض للّه ربّ العالمين‏.‏ هذا حسب تفصيل الحنفيّة، وأمّا غيرهم فيجعل ذلك كلّه من قبيل المجمل‏.‏

وينظر ما يتعلّق بذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

ثانياً‏:‏ عند الفقهاء

أثر الخفاء في سماع الدّعوى‏:‏

8 - يشترط في صحّة الدّعوى عدم وقوع التّناقض فيها، لذلك لا تسمع الدّعوى الّتي يقع فيها التّناقض، إلاّ أنّ التّناقض يغتفر فيما كان مبنيًّا على الخفاء، ففي المادّة ‏(‏1655‏)‏ من مجلّة الأحكام العدليّة‏:‏ يعفى التّناقض إذا ظهرت معذرة المدّعي وكان محلّ خفاء‏.‏

ومن أمثلة ذلك ما أفتى به في الحامديّة من أنّه إذا مات زيد عن ورثة بالغين وخلّف حصّةً من دار وصدّق الورثة أنّ بقيّة الدّار لفلان وفلان، ثمّ ظهر وتبيّن أنّ مورّثهم المذكور اشترى بقيّة الدّار من ورثة فلان وفلان في حال صغر المصدّقين وأنّه خفي عليهم ذلك، تسمع دعواهم ‏;‏ لأنّ هذا تناقض في محلّ الخفاء فيكون عفواً‏.‏

ومن ذلك دعوى النّسب، أو الحرّيّة، أو الطّلاق، لأنّ النّسب مبنيّ على أمر خفيّ وهو العلوق من المدّعي، إذ هو ممّا يغلب خفاؤه على النّاس، فالتّناقض في مثله غير معتبر، والطّلاق ينفرد به الزّوج، والحرّيّة ينفرد بها المولى‏.‏

ومن ذلك‏:‏ المدين بعد قضاء الدّين لو برهن على إبراء الدّائن له‏.‏

والمختلعة بعد أداء بدل الخلع لو برهنت على طلاق الزّوج قبل الخلع وغير ذلك‏.‏

وهكذا كلّ ما كان مبنيّاً على الخفاء فإنّه يعفى فيه عن التّناقض‏.‏

هذا هو الصّحيح من مذهب الحنفيّة كما أفتى به في الحامديّة، وهو قول الأكثرين من فقهاء مذهب المالكيّة، ومنهم من فرّق بين الأصول والدّين فتقبل البيّنة في الأصول، ولا تقبل في الدّين‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ البيّنة تقبل للعذر، ومقابل الأصحّ لا تقبل للمناقضة‏.‏

أمّا الحنابلة فلا تسمع البيّنة عندهم بعد الإنكار‏.‏ أمّا إن قال‏:‏ ما أعلم لي بيّنةً، ثمّ أتى ببيّنة، سمعت، لأنّه يجوز أن تكون له بيّنة لم يعلمها ثمّ علمها‏.‏

وهذا في الجملة، وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

خفاء النّجاسة‏:‏

9 - طهارة البدن والثّوب والمكان شرط لصحّة الصّلاة، وإذا أصابت النّجاسة شيئاً من ذلك وجب إزالتها بغسل الجزء الّذي أصابته النّجاسة، وهذا إذا علم مكانه‏.‏

أمّا إذا خفي موضع النّجاسة ولم يعلم في أيّ جزء هي، فبالنّسبة للثّوب والبدن يجب غسل الثّوب كلّه أو البدن كلّه‏.‏

وهذا عند الجمهور ولهم أنّه متيقّن للمانع من الصّلاة، والنّضح لا يزيل النّجاسة‏.‏

وفي قول عند الحنفيّة‏:‏ إذا غسل موضعاً من الثّوب يحكم بطهارة الباقي، قال الكاسانيّ‏:‏ وهذا غير سديد، لأنّ موضع النّجاسة غير معلوم، وليس البعض أولى من البعض، وهذا القول ‏"‏ وهو غسل موضع من الثّوب ‏"‏ حكاه صاحب البيان وجهاً عن ابن سريج من الشّافعيّة، وعلّله بأنّه يشكّ بعد ذلك في نجاسته والأصل طهارته، قال النّوويّ‏:‏ وهذا ليس بشيء، لأنّه تيقّن النّجاسة في هذا الثّوب وشكّ في زوالها‏.‏

وقال عطاء والحكم وحمّاد‏:‏ إذا خفيت النّجاسة في الثّوب، نضحه كلّه، وقال ابن شبرمة‏:‏ يتحرّى مكان النّجاسة فيغسله‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولعلّهم يحتجّون بحديث سهل بن حنيف في المذي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قلت‏:‏ يا رسول اللّه كيف بما يصيب ثوبي منه‏؟‏ قال‏:‏ يكفيك أن تأخذ كفّاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنّه أصاب منه»‏.‏ فأمره بالتّحرّي والنّضح‏.‏

10 - وأمّا بالنّسبة للمكان فعند الشّافعيّة والحنابلة إن كانت النّجاسة في مكان صغير كمصلّى صغير وبيت، وخفي مكانها، لم يجز أن يصلّي فيه حتّى يغسله كلّه، إذ الأصل بقاء النّجاسة ما بقي جزء منها، وإن كان المكان واسعاً كالفضاء الواسع والصّحراء لا يجب غسله، لأنّ ذلك يشقّ عليه، ويصلّي حيث شاء، لأنّه لو منع من الصّلاة أفضى إلى أن لا يجد موضعاً يصلّي فيه، ولا يجب الاجتهاد بل يسنّ كما قال الشّافعيّة، قالوا‏:‏ وله أن يصلّي فيه بلا اجتهاد‏.‏

وللمالكيّة قولان في الأرض الّتي أصابتها النّجاسة ولم يعلم مكانها‏:‏ قول بالغسل حكاه ابن عرفة اتّفاقاً، وقول بالنّضح وهو ظاهر المدوّنة ولم يفرّقوا بين المكان الضّيّق والأرض الواسعة‏.‏

ولم نطّلع للحنفيّة على حكم في ذلك إلاّ أنّهم يقولون‏:‏ إنّ الأرض تطهر بالجفاف وتجوز الصّلاة عليها، واستدلّوا بما رواه أبو داود بسنده عن «ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كنت أبيت في المسجد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكنت فتىً شابّاً عزباً وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك»‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ فلولا اعتبارها تطهر بالجفاف كان ذلك تبقيةً لها بوصف النّجاسة مع العلم بأنّهم يقومون عليها في الصّلاة إذ لا بدّ منه مع صغر المسجد وعدم من يتخلّف للصّلاة في بيته، وكون ذلك يكون في بقاع كثيرة من المسجد، لا في بقعة واحدة، حيث كانت تقبل وتدبر وتبول‏.‏ ولو أصابت النّجاسة أحد الكمّين في الثّوب ولم يعلم في أيّ كمّ هي وجب غسلهما جميعاً، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة، وهو المذهب عند المالكيّة، وفي وجه عند الشّافعيّة، قاله أبو إسحاق‏.‏

وقال ابن العربيّ من المالكيّة‏:‏ يتحرّى من الكمّين أحدهما فيغسله، كالثّوبين إذا تنجّس أحدهما ولم يعلمه، لكنّ محلّ الخلاف عند المالكيّة إذا اتّسع الوقت لغسل الكمّين ووجد من الماء ما يغسلهما معاً، فإن لم يسع الوقت إلاّ غسل واحد، أو لم يجد من الماء إلاّ ما يغسل واحداً، تحرّى واحداً يغسله فقط اتّفاقاً، ثمّ يغسل الثّاني بعد الصّلاة إذا ضاق الوقت، أو عند وجود الماء، فإن لم يسع الوقت غسل واحد أو لم يسع التّحرّي صلّى بدون غسل، لأنّ المحافظة على الوقت أولى من المحافظة على الطّهارة من الخبث‏.‏

والوجه الثّاني عند الشّافعيّة‏:‏ يتحرّى لأنّهما عينان متميّزتان فهما كالثّوبين‏.‏ قاله أبو العبّاس‏.‏ وما مضى من الحكم في خفاء النّجاسة في الثّوب أو البدن، أو المكان، هو مع العلم بوجود النّجاسة وخفاء موضعها من الثّوب، أو البدن، أو المكان، فإن شكّ في وجود النّجاسة مع تيقّن سبق الطّهارة جازت الصّلاة دون غسل، لأنّ الشّكّ لا يرفع اليقين، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

أمّا المالكيّة فيفرّقون بين الشّكّ في نجاسة البدن ونجاسة غيره من ثوب، أو حصير مثلاً، فيوجبون غسل البدن، لأنّه لا يفسد بذلك ويوجبون نضح الثّوب والحصير، لأنّه قد يفسد بذلك، وإن غسل فقد فعل الأحوط‏.‏ وهذا في الجملة‏.‏

خفاء العيب في المبيع‏:‏

11 - من الخيارات المعروفة خيار العيب، أو خيار النّقيصة كما يسمّيه بعض الفقهاء، وهو خيار يثبت للمشتري حقّ الرّدّ عند ظهور عيب معتبر في المبيع إذا توافرت الشّروط الّتي حدّدها الفقهاء، لأنّ سلامة المبيع شرط في العقد دلالةً‏.‏

ومن العيوب ما هو ظاهر كالعمى والأصبع الزّائدة، ومنها ما هو خفيّ كوجع الكبد والطّحال والإباق والسّرقة، والعيوب الخفيّة كالظّاهرة في إثبات حقّ الخيار للمشتري بالشّروط الّتي ذكرها الفقهاء، كجهل المشتري بالعيب، وألاّ يكون البائع قد اشترط البراءة من العيب وثبوت العيب عند المشتري‏.‏ إلخ‏.‏ مع مراعاة تفصيل المذاهب في هذه الشّروط‏.‏

وممّا يعتبر من العيوب الخفيّة العيب الّذي يكون في جوف المأكول كالبطّيخ، والجوز، والبيض ولا يعرف إلاّ بكسره، فعند الحنفيّة من اشترى شيئاً من ذلك فكسره فوجده فاسداً، فإن كان ينتفع به، ولو علفاً للدّوابّ، فله أرش العيب، إلاّ إذا رضي البائع به، وإن لم ينتفع به أصلاً رجع بكلّ الثّمن لبطلان البيع لأنّه ليس بمال، وإذا كان لقشره قيمة كبيض النّعام رجع بنقصان العيب‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يردّ البيع بظهور عيب باطن لا يطّلع عليه إلاّ بتغيّر في ذاته حيواناً كان أو غيره، كغشّ بطن الحيوان، وسوس الخشب، وفساد بطن الجوز، والبندق، والتّين، ومرارة الخيار، وبياض البطّيخ، ولا قيمة لما اشتراه، ويردّ البيض لظهور عيبه لأنّه يطّلع عليه بدون كسره لأنّه ممّا يعلم فساده قبل كسره، فإن كسره المشتري ردّه مكسوراً ورجع بجميع ثمنه، وهذا إذا كسره بحضرة بائعه، فإن كسره بعد أيّام فلا يردّه، لأنّه لا يدري أفسد عند البائع أم عند المشتري، وقال ابن حبيب فيما لا يردّ كعيب وجود السّوس في الخشب وفساد بطن الجوز‏:‏ لا يردّ إن كان من أصل الخلقة، ويردّ إن كان طارئاً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ ما لقشره قيمة كبيض النّعام يردّ ولا أرش في الأظهر، والثّاني يردّ ولكن يردّ معه الأرش، والثّالث لا يردّ أصلًا كما في سائر العيوب الحادثة ويرجع المشتري بأرش العيب أو يغرم أرش الحادثة، أمّا ما لا قيمة له فيتعيّن فيه فساد البيع لوروده على غير متقوّم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كسر المشتري ما ليس لمكسوره قيمة، كبيض الدّجاج، رجع بثمنه لتبيّن فساد العقد من أصله، وإن وجد البعض فاسداً رجع بقسطه من الثّمن، وإن كان لمكسوره قيمة، كبيض النّعام وجوز الهند، خيّر المشتري بين إمساكه وأخذ أرش نقصه، وبين ردّه مع أرش كسره وأخذ ثمنه‏.‏

ظهور دين خفيّ على التّركة

12 - إذا اقتسم الورثة التّركة ثمّ ظهر دين على الميّت بعد القسمة، فإن قضى الورثة الدّين مضت القسمة ولا تنقض، وإن امتنعوا من الأداء يطلب نقض القسمة‏.‏

وهذا في الجملة، وينظر التّفصيل في ‏(‏قسمة، ودين‏)‏‏.‏

خفارة

التّعريف

1 - الخفارة في اللّغة من خفر الرّجل وخفر به وعليه يخفر خفراً‏:‏ أجاره ومنعه وأمّنه، وكان له خفيراً يمنعه، وخفرت الرّجل‏:‏ أجرته وحفظته وخفرته‏:‏ إذا كنت له خفيراً، أي حامياً وكفيلاً، والاسم الخفارة بالفتح والضّمّ، والخفارة‏:‏ الذّمّة والعهد، والأمان، والحراسة، والإخفار‏:‏ انتهاك الذّمّة، يقال‏:‏ أخفرت الرّجل إذا نقضت عهده وذمامه، والهمزة فيه للإزالة، أي أزلت خفارته كأشكيته إذا أزلت شكايته‏.‏ والخَفارة والخُفارة والخِفارة أيضاً‏:‏ جُعْل الخفير‏.‏ والخفير‏:‏ الحارس، والخفارة حرفة الخفير‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ‏.‏

ويستعمل الفقهاء أيضاً لفظ البَذْرقة - بفتح الموحّدة وسكون الذّال المعجمة - قيل معرّبة‏:‏ وقيل مولّدة‏:‏ ومعناها الخفارة، أي جعل الخفير، وقال النّوويّ‏:‏ هي الخفير الّذي يحفظ الحجّاج‏.‏ وفي المصباح‏:‏ هي الجماعة الّتي تتقدّم القافلة للحراسة‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - الخفارة بمعنى الحفظ والحراسة، قد تكون واجبةً كحراسة طائفة من الجيش للأخرى الّتي تصلّي صلاة الخوف إذا أقيمت هذه الصّلاة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏‏.‏

وقد تكون مستحبّةً، كالحراسة والمرابطة في الثّغور‏.‏

وقد تكون جائزةً، كمن يؤجّر نفسه للحراسة في عمل غير محرّم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏حراسة، إجارة، جهاد، صلاة الخوف‏)‏‏.‏

أمّا الخفارة بمعنى الأمان والذّمّة فالأصل أنّه يجوز عقد الأمان بين المسلمين والكفّار إذا كان ذلك في مصلحة المسلمين‏.‏

ويجب إعطاء الأمان لمن طلبه ممّن يريد التّعرّف على شرائع الإسلام، قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم في هذا خلافاً، وكتب عمر بن عبد العزيز بذلك إلى النّاس، وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏أمان، جهاد‏)‏‏.‏

أوّلاً‏:‏ الخفارة بمعنى‏:‏ الجعُل، أو الحراسة

يذكر الفقهاء الخفارة بمعنى الجعل، أو الحراسة في بعض المواضع، ومنها‏:‏

أ - في الحجّ‏:‏

3 - يقرّر الفقهاء أنّ أمن الطّريق من أنواع الاستطاعة الّتي هي من شروط الحجّ‏.‏

فإذا كان في الطّريق عدوّ، أو لصّ، أو مكّاس، أو غيرهم ممّن يطلب الأموال من الحجّاج، أو كان الطّريق غير آمن واحتاج الحجّاج إلى خفير يحرسهم بالأجر، فهل يعتبر ذلك عذراً يسقط به الحجّ أم لا‏؟‏

أمّا الحكم بالنّسبة للخفارة الّتي يطلبها اللّصوص أو غيرهم فهو أنّه لا تعتبر عذراً يسقط به الحجّ، وذلك على القول المعتمد المفتى به عند الحنفيّة، وهو مذهب المالكيّة وقول ابن حامد والموفّق والمجد من الحنابلة، لكن بشرط أن يكون ما يدفع يسيراً لا يجحف، وبأن يأمن باذل الخفارة الغدر من المبذول له بأن يعلم بحكم العادة أنّه لا يعود إلى الأخذ ثانياً، لأنّ ما لا يجحف مع الأمن بعدم الأخذ ثانيًا يعتبر غرامة يقف إمكان الحجّ على بذلها، فلم يمنع وجوب الحجّ مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم‏.‏

وعند الشّافعيّة وهو القول الثّاني للحنفيّة وجمهور الحنابلة‏:‏ لا يجب الحجّ ولو كان ما يدفع يسيراً لأنّه رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكثير الّذي يدفع، ولأنّ في الدّفع تحريضاً على الطّلب‏.‏

وأمّا الحكم بالنّسبة لاستئجار خفير للحراسة بالأجر فعلى القول المعتمد المفتى به عند الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يسقط الحجّ بذلك، لكنّ ابن عرفة من المالكيّة اشترط أن تكون الأجرة لا تجحف بالمال، وقال الشّافعيّة‏:‏ إن كان ذلك بأجرة المثل لزمهم إخراجها، لأنّها من أهبة النّسك فيشترط في وجوبه القدرة عليها‏.‏ وهو ظاهر مذهب الحنابلة‏.‏

وعلى القول الثّاني عند الحنفيّة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة لا يجب استئجار من يحرس، لأنّ سبب الحاجة إلى ذلك خوف الطّريق وخروجها عن الاعتدال، وقد ثبت أنّ أمن الطّريق شرط، ولأنّ لزوم أجرة الخفارة خسران لدفع الظّلم، وهو بمنزلة ما زاد على ثمن المثل وأجرته في الزّاد والرّاحلة، وهو قول جماهير العراقيّين والخراسانيّن من الشّافعيّة‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏حجّ‏)‏‏.‏

ب - تضمين الخفراء‏:‏

4 - يرى جمهور الفقهاء عدم تضمين الخفراء ‏"‏ الحرّاس ‏"‏، لأنّ الخفير أمين إلاّ أن يتعدّى أو يفرّط‏.‏

قال الدّردير‏:‏ حارس الدّار أو البستان أو الطّعام أو الثّياب لا ضمان عليه، لأنّه أمين إلاّ أن يتعدّى أو يفرّط ولا عبرة بما شرط أو كتب على الخفراء في الحارات والأسواق من الضّمان‏.‏

قال الدّسوقيّ‏:‏ اعلم أنّ أصل المذهب عدم تضمين الخفراء والحرّاس والرّعاة، واستحسن بعض المتأخّرين تضمينهم نظراً لكونه من المصالح العامّة‏.‏

وهذا في الجملة وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏إجارة، حراسة، ضمان‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ الخفارة بمعنى‏:‏ الذّمّة والأمان والعهد

5 - أ - الخفارة بمعنى الذّمّة والعهد والأمان قد تكون بين اللّه وبين عباده، وذلك أنّ المسلم يكون في خفارة اللّه، أي أمانه وذمّته ما دام مطيعاً فإذا عصى اللّه فقد غدر‏.‏ يروي البخاريّ في هذا المعنى قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الّذي له ذمّة اللّه وذمّة رسوله فلا تخفروا اللّه في ذمّته»، والمعنى‏:‏ لا تغدروا فمن غدر ترك اللّه حمايته، قال ابن حجر‏:‏ وقد أخذ بمفهوم الحديث من ذهب إلى قتل تارك الصّلاة‏.‏

وروى مسلم في صحيحه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صلّى الصّبح فهو في ذمّة اللّه، فلا يطلبنكم اللّه من ذمّته بشيء فيدركه فيكبّه في نار جهنّم»‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ المراد نهيهم عن التّعرّض لما يوجب المطالبة، والمعنى‏:‏ من صلّى الصّبح فهو في ذمّة اللّه فلا تتعرّضوا له بشيء فإن تعرّضتم فاللّه يدرككم، وقيل‏:‏ المعنى لا تتركوا صلاة الصّبح فينتقض العهد الّذي بينكم وبين اللّه عزّ وجلّ ويطلبكم به وخصّ الصّبح بالذّكر لما فيه من المشقّة‏.‏

6- ب - الخفارة بمعنى الأمان والعهد الّذي يكون بين النّاس، وقد ورد في هذا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين»‏.‏ وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏‏.‏

قال الفقهاء‏:‏ إذا أعطي الأمان لأهل الحرب حرم قتلهم، وأخذ أموالهم، والتّعرّض لهم، لأنّ إخفار العهد حرام‏.‏ ومن طلب الأمان ليسمع كلام اللّه، ويعرف شرائع الإسلام وجب أن يعطاه ثمّ يردّ إلى مأمنه‏.‏ وفي ذلك تفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏أمان، جهاد‏)‏‏.‏

خفاض

انظر‏:‏ ختان‏.‏

خفّ

انظر‏:‏ مسح على الخفّين‏.‏

خفّاش

انظر‏:‏ أطعمة‏.‏

خفية

التّعريف‏:‏

1 - الخفية في اللّغة بضمّ الخاء وكسرها أصلها من خفيت الشّيء أخفيه أي سترته أو أظهرته فهو من الأضداد‏.‏ وخفي الشّيء يخفى خفاءً إذا استتر‏.‏ ويقال‏:‏ فعلته خفيةً إذا سترته، قال اللّيث‏:‏ الخفية من قولك‏:‏ أخفيت الشّيء‏:‏ أي سترته، ولقيته خفياً أي سرّاً وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً‏}‏‏.‏

وفي الاصطلاح تطلق على السّتر والكتمان دون الإظهار‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الاختلاس‏:‏

2 - الاختلاس‏:‏ السّلب بسرعة على غفلة، ولهذا يقال‏:‏ الفرصة خلسة‏.‏

وخلست الشّيء خلساً إذا اختطفته بسرعة على غفلة‏.‏ واختلسته كذلك‏.‏ فالمختلس يأخذ المال عياناً ويعتمد الهرب، بخلاف السّارق الّذي يأخذه خفيةً‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

أوّلاً‏:‏ الخفية في الدّعاء

3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الدّعاء خفيةً أفضل منه جهرًا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً‏}‏‏.‏ قال القرطبيّ‏:‏ تضرّعاً‏:‏ أن تظهروا التّذلّل، وخفيةً‏:‏ أن تبطنوا مثل ذلك، فأمر اللّه عزّ وجلّ عباده بالدّعاء، وقرن بالأمر صفات يحسن معها الدّعاء، منها الخفية ومعنى خفيةً‏:‏ سرّاً في النّفس ليبعد عن الرّياء‏.‏

وبذلك أثنى على نبيّه زكريّا عليه السلام إذ قال‏:‏ ‏{‏إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيَّاً‏}‏ ونحوه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الذّكر الخفيّ، وخير الرّزق ما يكفي»‏.‏

ومن المعلوم في الشّريعة أنّ السّرّ فيما لم يفرض من أعمال البرّ أعظم أجرًا من الجهر، وأنّ إخفاء عبادات التّطوّع أولى من الجهر بها لنفي الرّياء عنها، بخلاف الواجبات، لأنّ الفرائض لا يدخلها الرّياء، والنّوافل عرضة للرّياء‏.‏

واستثنى الفقهاء من ذلك أموراً منها‏:‏ التّلبية يوم عرفة، فقد نصّوا على أنّ الجهر به أولى من الخفية على أن لا يفرّط في الجهر به‏.‏

ثانياً‏:‏ الخفية في السّرقة

4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأخذ على سبيل الاستخفاء ركن من أركان السّرقة الموجبة للحدّ‏.‏ فقد عرّفوا السّرقة بأنّها‏:‏ أخذ العاقل البالغ نصاباً محرّزاً ملكاً للغير لا شبهة فيه على وجه الخفية‏.‏ ومع اختلاف عبارات الفقهاء في تعريف السّرقة وشروطها فإنّهم لا يختلفون في اشتراط أن يكون الأخذ على وجه الخفية، وإلاّ لا يعتبر الأخذ سرقةً، فلا قطع على منتهب، ولا على مختلس ولا على خائن، كما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ليس على خائن ولا منتهب، ولا مختلس قطع»‏.‏

والمختلس والمنتهب يأخذان المال عياناً ويعتمد الأوّل الهرب، والثّاني القوّة والغلبة، فيدفعان بالسّلطان وغيره، بخلاف السّارق لأخذه خفيةً فيشرع قطعه زجراً‏.‏

وفي تحقّق هذا الرّكن من كون الخفية ابتداءً وانتهاءً معاً، أو ابتداءً فقط وكذلك في سائر الأركان والشّروط بيان وتفصيل، وفي بعض الفروع خلاف بين الفقهاء ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة‏)‏‏.‏

خلا

انظر‏:‏ كلأ‏.‏

خلاء

التّعريف

1 - الخلاء لغةً من خلا المنزل أو المكان من أهله يخلو خلوّاً وخلاءً إذا لم يكن فيه أحد ولا شيء فيه‏.‏ ومكان خلاء لا أحد به ولا شيء فيه‏.‏

والخلاء بالمدّ مثل الفضاء والبراز من الأرض‏.‏

والخلاء بالمدّ في الأصل المكان الخالي ثمّ نقل إلى الباء المعدّ لقضاء الحاجة عرفاً، وجمعه أخلية‏.‏ ويسمّى أيضاً الكنيف والمرفق والمرحاض‏.‏ والتّخلّي هو قضاء الحاجة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «كان أناس - من الصّحابة - يستحيون أن يتخلّوا فيفضوا إلى السّماء»، أي يستحيون أن ينكشفوا عند قضاء الحاجة تحت السّماء‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - ذكر الفقهاء للتّخلّي آداباً عديدةً منها‏:‏

أنّ الشّخص المتخلّي يقدّم ندباً رجله اليسرى عند دخول الخلاء قائلاً‏:‏ بسم اللّه، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث لما روي عن أنس رضي الله عنه‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال‏:‏ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث»‏.‏

وتنظر الأحكام المتعلّقة بالخلاء تحت مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء الحاجة‏)‏‏.‏

خلاف

انظر‏:‏ اختلاف‏.‏

خلافة

انظر‏:‏ إمامة كبرى‏.‏

خلط

التّعريف‏:‏

1 - الخلط في اللّغة مصدر خلط الشّيء بغيره يخلطه خلطاً إذا مزجه به وخلّطه تخليطاً فاختلط‏:‏ امتزج‏.‏

والخلط أعمّ من أن يكون في المائعات ونحوها ممّا لا يمكن تمييزه، أو غيرها ممّا يمكن تمييزه بعد الخلط، كالحيوانات، وكلّ ما خالط الشّيء، فهو خلط‏.‏

وجاء في الكلّيّات‏:‏ الخلط‏:‏ الجمع بين أجزاء شيئين فأكثر‏:‏ مائعين، أو جامدين، أو متخالفين‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

أحكام الخلط

يختلف حكم الخلط باختلاف موضوعه كما سيأتي‏.‏

خلط ما تجب فيه الزّكاة

2 - إن خلط اثنان من أهل الزّكاة مالين لهما ممّا تجب فيه الزّكاة‏:‏ خلطة شيوع، أو جوار فيزكّيان زكاة الواحد عند بعض الفقهاء، والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏خلطة‏)‏‏.‏

خلط المالين في عقد الشّركة‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في اشتراط خلط المالين قبل العقد لانعقاد عقد الشّركة‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‏"‏ إلى أنّ الشّركة تنعقد بمجرّد العقد وإن لم يحصل الخلط بين المالين‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ الشّركة في الرّبح مستندة إلى العقد دون المال، لأنّ العقد يسمّى شركةً فلا بدّ من تحقّق معنى هذا الاسم فيه، فلم يكن الخلط شرطاً، ولأنّ الدّراهم والدّنانير لا يتعيّنان، فلا يستفاد الرّبح برأس المال وإنّما يستفاد بالتّصرّف، لأنّه في النّصف أصيل وفي النّصف وكيل، وإذا تحقّقت الشّركة في التّصرّف بدون الخلط تحقّقت في المستفاد به، ولأنّه عقد يقصد به الرّبح فلم يشترط فيه الخلط كالمضاربة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يشترط في صحّة عقد الشّركة خلط رأس مال الشّركة بعضه ببعضه قبل العقد خلطاً لا يمكن التّمييز بينها، فلو حصل الخلط بعد العقد، ولو في المجلس لم يكف على الأصحّ، ويجب إعادة العقد‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ أسماء العقود المشتقّة من المعاني يجب تحقّق تلك المعاني فيها، ومعنى الشّركة‏:‏ الاختلاط والامتزاج‏.‏

وهو لا يحصل إلاّ بالخلط قبل العقد، وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏شركة‏)‏‏.‏

الخلط تعدّياً

4 - إذا خلط الغاصب المال المغصوب بغيره، أو اختلط عنده، أو خلط الأمين كالمودع والوكيل، وعامل القراض المال المؤتمن عليه بغيره، فإن أمكن التّمييز لزمه، وإن شقّ عليه، وإلاّ فكالتّالف، فينتقل الحقّ إلى ذمّة الغاصب أو الأمين، سواء خلطه بمثله أم بأجود منه، أم بأردأ، وللضّامن أن يدفع من المخلوط بمثله أو بأجود منه، لأنّه قدر على دفع بعض ماله إليه مع ردّ المثل في الباقي، فلم يجب عليه الانتقال إلى بدله في الجميع‏.‏ وتفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏وديعة، وكالة، مضاربة، غصب‏)‏‏.‏

خلط الوليّ مال الصّبيّ بماله

5 - يجوز للوليّ خلط مال الصّبيّ بماله، ومؤاكلته للإرفاق إذا كان في الخلط حظّ للصّبيّ، بأن كانت كلفة الاجتماع أقلّ منها في الانفراد، وله الضّيافة، والإطعام من المال المشترك، إن فضل للمولى عليه قدر حقّه، وكذا له خلط أطعمة أيتام بعضها ببعضها وبماله إن كانت في ذلك مصلحة للجميع‏.‏

لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

خلط الماء بطاهر

6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا خالط الماء ما لا يمكن التّحرّز منه كالطّحلب، وسائر ما ينبت في الماء، وما في مقرّه، وممرّه، فغيّره فإنّه لا يسلبه الطّهوريّة، أمّا إذا خلط بقصد فغيّره فإنّه يسلبه الطّهوريّة‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏طهارة‏)‏‏.‏

خُلطة

التّعريف

1 - الخُلطة ‏(‏بضمّ الخاء‏)‏ لغةً من الخلط، وهو مزج الشّيء بالشّيء‏.‏ يقال‏:‏ خلط القمح بالقمح يخلطه خلطًا، وخلطه فاختلط‏.‏ وخليطُ الرّجل مخالطُه‏.‏‏.‏‏.‏ والخليط، الجار والصّاحب‏.‏ وقيل‏:‏ لا يكون إلاّ في الشّركة‏.‏ وفي التّنزيل ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏‏.‏ والخِلطة العِشْرة‏.‏ والخُلطة الشّركة‏.‏

والخُلطَة في الاصطلاح الفقهيّ نوعان‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ خلطة الأعيان، هكذا سمّاها الحنابلة، وسمّاها الشّافعيّة أيضاً خلطة الاشتراك وخلطة الشّيوع، وهي أن يكون المال لرجلين أو أكثر هو بينهما على الشّيوع، مثل أن يشتريا قطيعاً من الماشية شركةً بينهما لكلّ منهما فيه نصيب مشاع، أو أن يرثاه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله غير متميّز‏.‏

والثّاني‏:‏ خلطة الأوصاف، وفي شرح المنهاج تسميتها خلطة الجوار أيضاً‏.‏ وهي أن يكون مال كلّ من الخليطين معروفاً لصاحبه بعينه فخلطاه في المرافق لأجل الرّفق في المرعى، أو الحظيرة، أو الشّرب‏.‏ بحيث لا تتميّز في المرافق‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - الخلطة في الأموال على وجه يتميّز به مال كلّ من الخليطين عن صاحبه أمر مباح في الأصل، لأنّه نوع من التّصرّف المباح في المال الخاصّ‏.‏

وقد يحصل به أنواع من الرّفق بأصحاب الأموال كأن يكون لأهل القرية غنم لكلّ منهم عدد قليل منها فيجمعوها عند راع واحد يرعاها بأجر أو تبرّعاً، ويؤويها إلى حظيرة واحدة، وتجمع في سقيها أو حلبها أو غير ذلك، فذلك أيسر عليهم من أن يقوم كلّ منهم على غنمه وحده، وكذا في خلطة المزارع الارتفاق باتّحاد النّاطور، والماء، والحراث، والعامل‏.‏ وفي خلطة التّجّار باتّحاد الميزان ونحو ذلك‏.‏

وأمّا خلطة الأعيان فهي الشّركة بعينها، ويراجع حكمها تحت مصطلح‏:‏ ‏(‏شركة‏)‏ والأصل فيها أيضاً الإباحة‏.‏

وبما أنّ الخلطة قد تكون سبباً في تقليل الزّكاة بشروطها فقد ورد النّهي عن إظهار صورة الخلطة إذا لم تكن هناك خلطة في الحقيقة سعياً وراء تقليل الزّكاة الّتي قد وجبت فعلاً، وكذا ورد النّهي عن إظهار صورة الانفراد سعياً وراء تقليل الزّكاة الّتي وجبت فعلاً في الأموال المختلطة، وذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يجمع بين متفرّق، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة»‏.‏ ويأتي مطوّلاً بيان معنى ذلك‏.‏

أحكام الخلطة

3 - اختلف الفقهاء في تأثير الخلطة في الزّكاة على قولين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ لها تأثيراً في الزّكاة من حيث الجملة، وهذا قول الجمهور على خلاف بينهم في بعض الشّروط الّتي لا بدّ من توافرها ليتحقّق ذلك التّأثير‏.‏ مع الخلاف أيضاً في الأموال الّتي تؤثّر الخلطة فيها على ما سيأتي‏.‏ واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه «ولا يجمع بين متفرّق، ولا يفرّق بين مجتمع، خشية الصّدقة، وما كان من خليطين فإنّهما يتراجعان بينهما بالسّويّة»‏.‏

قال الأزهريّ‏:‏ جوّد تفسير هذا الحديث أبو عبيد في كتاب الأموال، وفسّره على نحو ما فسّره الشّافعيّ‏.‏ قال الشّافعيّ‏:‏ الّذي لا أشكّ فيه أنّ ‏"‏ الخليطين ‏"‏‏:‏ الشّريكان لم يقتسما الماشية، ‏"‏ وتراجعهما بالسّويّة ‏"‏‏:‏ أن يكونا خليطين في الإبل تجب فيها الغنم، فتوجد الإبل في يد أحدهما، فتأخذ منه صدقتها فيرجع على شريكه بالسّويّة‏.‏ قال الشّافعيّ‏:‏ وقد يكون ‏"‏ الخليطان ‏"‏ الرّجلين يتخالطان بماشيتهما، وإن عرف كلّ منهما ماشيته، قال‏:‏ ولا يكونان خليطين حتّى يريحا ويسرحا معاً، وتكون فحولتهما مختلطةً، فإذا كانا هكذا صدّقا صدقة الواحد بكلّ حال‏.‏

قال‏:‏ وإن تفرّقا في مراح، أو سقي، أو فحول، صدّقا صدقة الاثنين‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يجمع بين متفرّق خشية الصّدقة» فهو نهي عن أن يخلط الرّجل إبله بإبل غيره، أو غنمه بغنمه، أو بقره ببقره، ليمنع حقّ اللّه تعالى ويبخس المصدّق ‏"‏ وهو جابي الزّكاة ‏"‏، وذلك كأن يكون ثلاثة رجال، لكلّ منهم أربعون شاةً، فيكون على كلّ منهم في غنمه شاة، فإذا أحسّوا بقرب وصول المصدّق جمعوها ليكون عليهم فيها شاة واحدة‏.‏

وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة» مثل أن يكون نصاب بين اثنين، فإذا جاء المصدّق أفرد كلّ منهما إبله عن إبل صاحبه لئلاّ يكون عليهما شيء‏.‏ واحتجّوا أيضاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا خلاط ولا وراط» ‏(‏الخديعة‏)‏ ‏"‏ فالخلاط المنهيّ عنه هو ما تقدّم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع بين متفرّق خشية الصّدقة» فلولا أنّ للخلط تأثيراً في الزّكاة ما نهى عنه‏.‏

القول الثّاني‏:‏ وهو مذهب الحنفيّة أنّ الخلطة بنوعيها لا تأثير لها، واستدلّوا بحديث أنس نفسه، قال ابن الهمام‏:‏ لنا هذا الحديث، إذ المراد الجمع والتّفريق في الأملاك لا في الأمكنة، ألا ترى أنّ النّصاب المفرّق في أمكنة مع وحدة المالك تجب فيه الزّكاة، ومن ملك ثمانين شاةً فليس للسّاعي أن يجعلها نصابين بأن يفرّقها في مكانين‏.‏

قال‏:‏ «فمعنى لا يفرّق بين مجتمع»، أن لا يفرّق السّاعي بين الثّمانين أو المائة والعشرين فيجعلها نصابين أو ثلاثةً‏.‏ ومعنى «ولا يجمع بين متفرّق» لا يجمع الأربعين المتفرّقة في الملك بأن تكون مشتركةً ليجعلها نصاباً، والحال أنّ لكلّ منهما عشرين‏.‏ قال‏:‏ «وتراجعهما بالسّويّة» أن يرجع كلّ واحد من الشّريكين على شريكه بحصّة ما أخذ منه‏.‏

واحتجّوا أيضاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «إذا كانت سائمة الرّجل ناقصةً من أربعين شاةً واحدةً فليس فيها صدقة» قال الكاسانيّ‏:‏ نفى الحديث وجوب الزّكاة في أقلّ من أربعين مطلقًا عن حال الشّركة والانفراد‏.‏

فدلّ أنّ كمال النّصاب في حقّ كلّ واحد منهما شرط الوجوب‏.‏

أوجه تأثير الخلطة

4 - الخلطة تؤثّر - عند من قال بها - في المالين المختلطين من أوجه‏:‏

الأوّل‏:‏ تكميل النّصاب، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة، فلو كان لكلّ من الخليطين أقلّ من نصاب، ومجموع مالهما نصاب، تجب فيه الزّكاة‏.‏ وفي كتاب الفروع‏:‏ لو تخالط أربعون رجلاً لكلّ منهم شاة واحدة، فعليهم الزّكاة، شاة واحدة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا أثر للخلطة حتّى يكون لكلّ من الخليطين نصاب‏.‏

الثّاني‏:‏ القدر، فلو كان ثلاثة لكلّ منهم أربعون شاةً تخالطوا بها، فعليهم شاة واحدة، ولولا الخلطة لكان على كلّ منهم شاة‏.‏ وهذا تأثير بالنّقص‏.‏

وقد يكون التّأثير بالزّيادة، كخليطين لكلّ واحد منهما مائة شاة وشاة واحدة، عليهما ثلاث شياه، ولولا الخلطة لكان على كلّ منهما شاة واحدة‏.‏ وقد يكون التّأثير تخفيفاً على أحدهما وتثقيلاً على الآخر كخليطين لأحدهما أربعون وللآخر عشرون‏.‏

الثّالث‏:‏ السّنّ‏:‏ كاثنين لكلّ منهما ستّ وثلاثون من الإبل فعليهم جذعة، على كلّ واحد نصفها، ولولا الخلطة لكان على كلّ منهما بنت لبون، فحصل بها تغيّر في السّنّ‏.‏

الرّابع‏:‏ الصّنف، كاثنين لأحدهما أربعون من الضّأن، وللثّاني ثمانون من المعز، فعليهما شاة من المعز، لأنّ المعز أكثر، كالمالك الواحد، فقد تغيّر الصّنف بالنّسبة لمالك الضّأن‏.‏ وقد لا توجب الخلطة تغييراً، كاثنين لكلّ منهما عشر شياه فلا زكاة عليهما مع الخلطة أو عدمها‏.‏ أو اثنين لكلّ منهما مائة شاة، فعليهما شاتان سواء اختلطا أم انفردا‏.‏

الخامس‏:‏ أنّ الخلطة تفيد جواز إخراج الخليط الزّكاة عن خليطه عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ قال صاحب المحرّر من الحنابلة‏:‏ عقد الخلطة جعل كلّ واحد منهما كالآذن لخليطه في الإخراج عنه‏.‏ وقال ابن حامد‏:‏ يجزئ إخراج أحدهما بلا إذن الآخر‏.‏

واختار صاحب الرّعاية‏:‏ لا يجزئ إلاّ بإذن‏.‏

أنواع الأموال الزّكويّة الّتي يظهر فيها تأثير الخلطة عند غير الحنفيّة‏:‏

أوّلاً‏:‏ السّائمة‏:‏

5 - قد اتّفق من عدا الحنفيّة على أنّ الخلطة مؤثّرة فيها‏.‏ سواء أكانت إبلاً مع إبل، أو غنماً مع غنم، أو بقراً مع بقر‏.‏

ثانياً‏:‏ الزّرع والثّمر وعروض التّجارة والذّهب والفضّة‏:‏

فالأظهر عند الشّافعيّة أنّها تؤثّر أيضاً، فلو كان نصاب منها مشتركاً بين اثنين ففيه الزّكاة، وكذا إن كان مختلطًا خلطة جوار‏.‏

واحتجّوا بعموم الحديث «لا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة» وهذا رواية عن أحمد اختارها الآجرّيّ وصحّحها ابن عقيل، ووجّهها القاضي بأنّ المئونة تخفّ فالملقّح واحد، والحراث واحد، والجرين واحد، وكذا الدّكّان واحد، والميزان والمخزن والبائع‏.‏

ومذهب مالك هو الرّواية الأخرى عن أحمد وهو قول للشّافعيّة‏:‏ إنّ الخلطة فيها لا تؤثّر مطلقاً، بل يزكّي مال كلّ شريك أو خليط وحده‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهذا قول أكثر أهل العلم قال‏:‏ وهو الصّحيح، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخليطان ما اجتمعا على الحوض والرّاعي والفحل» فدلّ على أنّ ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطةً مؤثّرةً، ودلّ على أنّ حديث «لا يفرّق بين مجتمع» إنّما يكون في الماشية‏.‏

ووجه الخصوصيّة أنّ الزّكاة تقلّ بجمع الماشية تارةً وتزيد أخرى، وسائر الأموال غير الماشية تجب فيها فيما زاد على النّصاب بحسابه فلا أثر لجمعها، ولأنّ الخلطة في الماشية تؤثّر للمالك نفعاً تارةً وضرراً تارةً أخرى، ولو اعتبرت في غير الماشية أثّرت ضرراً محضاً بربّ المال، أي في حال انفراد كلّ من الخليطين بأقلّ من النّصاب، فلا يجوز اعتبارها‏.‏ وفي قول ثالث عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد‏:‏ التّفريق بين خلطة الاشتراك، فتؤثّر وبين خلطة الجوار فلا تؤثّر مطلقاً‏.‏

وفي قول رابع للشّافعيّة‏:‏ تؤثّر خلطة الجوار في الزّرع والثّمر دون النّقد وعروض التّجارة‏.‏ وقد نقل هذا القول ابن قدامة عن الأوزاعيّ وإسحاق‏.‏

شروط تأثير الخلطة في الزّكاة عند القائلين بها‏:‏

الّذين قالوا بتأثير الخلطة في الزّكاة اشترطوا لذلك شروطاً كما يلي‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏

6 - أن يكون لكلّ من الخليطين نصاب تامّ، وهذا اشترطه المالكيّة في المعتمد والثّوريّ وأبو ثور واختاره ابن المنذر‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ وسواء خالط بنصابه التّامّ أو ببعضه‏.‏ فلو كان له أربعون أو أكثر من الغنم فخالط بها كلّها من له أربعون أو أكثر زكّي ما لهما زكاة مالك واحد‏.‏

ولو أنّ أحدهما خالط بعشرين وله غيرها ممّا يتمّ به ما له نصاباً فيضمّ ما لم يخالط به إلى مال الخلطة وتزكّى غنمهما كلّها زكاة مالك واحد إذا كان ما تخالطا به نصاباً أو أكثر‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ المشترط أن يكون مجموع المالين لا يقلّ عن نصاب، فإن كان مجموعهما أقلّ من نصاب فلا أثر للخلطة ما لم يكن لأحدهما مال آخر من جنس المال المختلط يكمل به مع ماله المختلط نصاب، كما لو اختلطا في عشرين شاةً لكلّ منهما منها عشر فلا أثر للخلطة، فإن كان لأحدهما ثلاثون أخرى زكّيا زكاة الخلطة‏.‏

أمّا عند الحنابلة فالخلطة مؤثّرة ولو لم يبلغ مال كلّ من الخليطين نصاباً‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏

7 - أن يكون كلّ من الخليطين من أهل الزّكاة، مسلماً، فإن كانا كافرين أو أحدهما، لم تلزم الزّكاة الكافر ويزكّي المسلم زكاة منفرد‏.‏

فإن كانوا ثلاثة خلطاء أحدهم كافر زكّى الآخران ماليهما زكاة خلطة‏.‏

ومن ذلك أنّ المالكيّة اشترطوا في كلا الخليطين أن يكون حرّاً لأنّ العبد لا زكاة عليه‏.‏ واشترط الحنابلة أن لا يكون الخليط غاصباً لما هو مخالط به‏.‏

وكذا لو كان أحد المالين موقوفاً أو لبيت المال‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏

8 - نيّة الخلطة‏.‏ وهذا قد اشترطه المالكيّة، وهو قول للشّافعيّة خلاف الأصحّ عندهم، وقول القاضي من الحنابلة‏.‏ قال الدّردير من المالكيّة‏:‏ والمراد أن ينوي الخلطة كلّ واحد من الخليطين أو الخلطاء، لا واحد فقط، بأن ينويا حصول الرّفق بالاختلاط لا الفرار من الزّكاة‏.‏ ووجّهه المحلّيّ بأنّ الخلطة تغيّر أمر الزّكاة بالتّكثير أو التّقليل ولا ينبغي أن يكثر من غير قصده ورضاه ولا أن يقلّل إذا لم يقصده محافظةً على حقّ الفقراء‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة وهو مذهب الحنابلة أنّه لا أثر لنيّة الخلطة، قال المحلّيّ‏:‏ لأنّ الخلطة إنّما تؤثّر من جهة خفّة المؤنة باتّحاد المرافق وذلك لا يختلف بالقصد وعدمه‏.‏

وقال ابن قدامة‏:‏ لأنّ النّيّة لا تؤثّر في الخلطة فلا تؤثّر في حكمها‏.‏

ولأنّ المقصود بالخلطة الارتفاق وهو حاصل ولو بغير نيّة، فلم يتغيّر وجودها معه كما لا تتغيّر نيّة السّوم في الإسامة، ولا نيّة السّقي في الزّروع والثّمار، ولا نيّة مضيّ الحول فيما الحول شرط فيه‏.‏

الشّرط الرّابع‏:‏

9 - الاشتراك في مرافق معيّنة، والكلام على ذلك يتعلّق بالأنعام وبغيرها‏.‏

أوّلاً‏:‏ الخلطة في الأنعام‏.‏ وجملة ما يذكره الفقهاء من تلك المرافق‏.‏

أ - المشرع، أي موضع الماء الّذي تشرب منه سواء كان حوضاً، أو نهراً، أو عيناً، أو بئراً، فلا يختصّ أحد المالين بماء دون الآخر‏.‏

ب - المراح، قال المالكيّة‏:‏ هو المكان الّذي تقيل فيه أو تجتمع، ثمّ تساق منه للمبيت أو للسّروح‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ المراح مأواها ليلاً‏.‏

ج - المبيت‏:‏ وهو المكان الّذي تقضي فيه اللّيل‏.‏

د - موضع الحلب، والآنية الّتي يحلب فيها، والحالب‏.‏

هـ- المسرح‏:‏ وهو عند الشّافعيّة الموضع الّذي تسرح إليه لتجتمع وتساق إلى المرعى‏.‏

ز - المرعى‏:‏ وهو مكان الرّعي وهو المسرح نفسه عند الحنابلة، وغيره عند الشّافعيّة‏.‏

ح - الرّاعي‏:‏ ولو كان لكلّ من المالين راع لكن لو تعاون الرّاعيان في حفظ المالين بإذن صاحبيهما فذلك من اتّحاد الرّاعي أيضاً‏.‏

ط - الفحولة‏:‏ بأن تضرب في الجميع دون تمييز‏.‏ والأصل في ذلك الحديث الّذي تقدّم نقله «الخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والرّاعي»‏.‏

ثمّ إنّ المالكيّة قالوا‏:‏ تتمّ الخلطة بثلاثة على الأقلّ من خمسة هي الماء، والمراح،والمبيت، والرّاعي، والفحل، فلو انفردا في اثنين من الخمسة أو واحد لم ينتف حكم الخلطة‏.‏ ومذهب الشّافعيّة أنّه لا بدّ من الاشتراك في سبعة هي المشرع، والمسرح، والمراح، وموضع الحلب، والرّاعي، والفحل، والمرعى‏.‏ وزاد بعضهم غيرها‏.‏

ومذهب الحنابلة لا بدّ من الاشتراك في خمسة‏:‏ المسرح وهو المرعى، والمبيت،والمشرب، والمحلب، والفحل، وبعضهم أضاف الرّاعي، وبعضهم جعل الرّاعي والمرعى شرطاً واحداً‏.‏ واشترط بعضهم خلط اللّبن‏.‏

وقد صرّح المالكيّة بأنّ كلّ منفعة من هذه المنافع يحصل الاشتراك فيها إذا لم يختصّ بها أحد المالين دون الآخر سواء أكانت مملوكةً لهما أم لأحدهما وأذن للآخر أو لغيرهما وأعاره لهما أو كانت مباحةً للنّاس كما في المبيت والمراح والمشرب‏.‏

10 - ثانياً‏:‏ الخلطة في الزّروع والثّمار، فالّذين قالوا من الشّافعيّة إنّ الخلطة تؤثّر فيها حتّى تؤخذ من النّصاب ولو كان مملوكاً لأكثر من واحد، قالوا‏:‏ يشترط أن لا يتميّز ‏"‏ النّاطور ‏"‏ وهو حافظ النّخل والشّجر ‏"‏ والجرين ‏"‏ وهو موضع جمع الثّمر وتجفيفه، قال الرّمليّ‏:‏ وزاد في شرح المهذّب اتّحاد الماء، والحراث، والعامل، وجذاذ النّخل، والملقّح، واللّقّاط، وما يسقى لهما به‏.‏

وفي خلطة التّاجرين اشترطوا اتّحاد الدّكّان والحارس ومكان الحفظ ونحوها، ولو كان مال كلّ منهما متميّزاً، كأن تكون دراهم أحدهما في كيس ودراهم الآخر في كيس إلاّ أنّ الصّندوق واحد‏.‏

وفيما زاده في شرح المهذّب‏:‏ اتّحاد الحمّال، والكيّال، والوزّان، والميزان‏.‏

وفيما علّل به الذّاهبون من الحنابلة إلى تأثير الخلطة في الزّروع والثّمار والعروض إيماءً إلى اشتراط مثل ما قاله الشّافعيّة، فقد جاء في المغني‏:‏ خرّج القاضي وجهاً في الزّروع والثّمار أنّ الخلطة تؤثّر لأنّ المئونة تخفّ إذا كان الملقّح واحداً، والصّعّاد والنّاطور والجرين‏.‏ وكذلك أموال التّجارة، فالدّكّان والمخزن والميزان والبائع واحد‏.‏

وعبّر في الفروع عن ذلك كلّه باتّحاد المؤن ومرافق الملك‏.‏

الشّرط الخامس‏:‏ الحول في الأموال الحوليّة‏.‏ وهذا الشّرط للشّافعيّة في الجديد، والحنابلة‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ يعتبر اختلاطهم في جميع الحول، فإن ثبت لهم حكم الانفراد في بعضه زكّوا زكاة منفردين‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لو ملك كلّ منهما أربعين شاةً في غرّة المحرّم ثمّ خلطا في غرّة صفر فلا يثبت حكم الخلطة في هذه السّنة، ويثبت في السّنة الثّانية‏.‏

والمذهب القديم للشّافعيّة عدم اشتراط تمام الحول على الاختلاط‏.‏ وعليه يكون على كلّ منهما شاة كاملة في نهاية السّنة الأولى على الجديد في المثال السّابق‏.‏ وفي القديم نصف شاة‏.‏

ومذهب مالك أنّ المشترط الاختلاط آخر حول الملك وقبله بنحو شهر، ولو كانا قبل ذلك منفردين، فيكفي اختلاطهما في أثناء السّنة من حين الملك ما لم يقرب آخر السّنة جدّاً‏.‏

فإن لم يكن المال حوليّاً، كالزّروع والثّمار عند من قال بتأثير الخلطة فيها، قال الرّمليّ‏:‏ المعتبر بقاء الخلطة إلى زهوّ الثّمار، واشتداد الحبّ في النّبات‏.‏

كيفيّة إخراج زكاة المال المختلط

12 - الخلطاء سواء أكانوا في خلطة اشتراك أم في خلطة جوار، يعامل مالهم الّذي تخالطوا فيه معاملة مال رجل واحد، وهذا يقتضي أنّ السّاعي له أن يأخذ الفرض من مال أيّ الخليطين شاء، سواء دعت الحاجة إلى ذلك بأن تكون الفريضة عيناً واحدةً لا يمكن أخذها من المالين جميعاً، أو كان لا يجد فرضهما جميعاً إلاّ في أحد المالين، مثل أن يكون مال أحدهما صغاراً، ومال الآخر كباراً، أو يكون مال أحدهما مراضاً، ومال الآخر صحاحاً، فإنّه يأخذ صحيحةً كبيرةً، أو لم تدع الحاجة إلى ذلك‏.‏

قال أحمد‏:‏ إنّما يجيء المصدّق ‏"‏ أي الجابي ‏"‏ فيجد الماشية فيصدقها، ليس يجيء فيقول‏:‏ أيّ شيء لك‏؟‏ وإنّما يصدق ما يجده‏.‏ وقال الهيثم بن خارجة لأحمد‏:‏ أنا رأيت مسكيناً كان له في غنم شاتان، فجاء المصدّق فأخذ إحداهما‏.‏ ولأنّ المالين قد صارا كالمال الواحد في وجوب الزّكاة، فكذلك في إخراجها‏.‏

التّرادّ فيما يأخذه السّاعي من زكاة المال المختلط

13 - إن كانت الخلطة خلطة اشتراك، والمال مشاع بين الخليطين، فإنّ ما يأخذه السّاعي هو من المشاع بين الخلطاء، فلا إشكال، لأنّه يكون بينهم بنسبة ملكهم في أصل المال‏.‏ وإن كانت خلطة جوار، فإنّه إمّا أن يأخذ بحقّ أو بباطل‏.‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يأخذ بحقّ، وحينئذ فما أخذه يتراجعان في قيمته بالنّسبة العدديّة لكلّ من ماليهما‏.‏ فلو خلطا عشرين من الغنم بعشرين، فأخذ السّاعي شاةً من نصيب أحدهما رجع على صاحبه بنصف قيمة الشّاة الّتي أخذت منه، لا بنصف شاة، لأنّ الشّاة غير مثليّة‏.‏

ولو كان لأحدهما مائة وللآخر خمسون فأخذ السّاعي الشّاتين الواجبتين من غنم صاحب المائة، رجع بثلث قيمتهما، أو من صاحب الخمسين رجع على الآخر بثلثي قيمتهما، أو أخذ من كلّ منهما شاةً، رجع صاحب المائة بثلث قيمة شاته، وصاحب الخمسين بثلثي قيمة شاته، ثمّ إنّه إذا لم تكن بيّنة وتنازعا في قيمة المأخوذ، فالقول قول المرجوع عليه بيمينه إذا احتمل قوله الصّدق لأنّه غارم‏.‏

والمعتبر في قيمة المرجوع به يوم الأخذ في قول ابن القاسم، لأنّه بمعنى الاستهلاك، وقال أشهب‏:‏ يوم التّراجع، لأنّه بمعنى السّلف، والمتسلّف إذا عجز عن ردّ ما تسلّفه وأراد ردّ قيمته تعتبر قيمته يوم القضاء‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يأخذ بغير حقّ، وهذا على نوعين، لأنّه إمّا أن يكون متأوّلاً تأويلاً سائغاً أو لا‏.‏

فإن كان متأوّلاً تأويلاً سائغاً، وهو أن يكون رأى جواز ذلك شرعاً، فحكمه حكم ما لو أخذ بحقّ‏.‏ ومثال ذلك عند المالكيّة، أن يأخذ شاةً من خليطين لكلّ منهما عشرون شاةً، فيتراجعا كما تقدّم‏.‏ والأصل عند المالكيّة أنّ هذا الأخذ بغير حقّ، لأنّ الخلطة لا تؤثّر تكميل النّصاب كما تقدّم، بخلاف مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ومثاله عند المالكيّة أيضاً لو أخذ شاتين من خليطين لأحدهما مائة،وللآخر خمسة وعشرون، فعلى الأوّل أربعة أخماس الشّاتين، وعلى الآخر خمسهما، لأنّ أخذ السّاعي ينزّل منزلة حكم الحاكم، لأنّه نائب الإمام ففعله كفعله‏.‏

وإن كان غير متأوّل، أو كان متأوّلاً ولا وجه لتأوّله، فلا تراجع، وهي مصيبة حلّت بمن أخذت منه، إذ المظلوم ليس له أن يرجع بمظلمته على غيره‏.‏

مثال ذلك، أن يكون لكلّ من الخليطين ثلاثون شاةً، فيأخذ السّاعي من مال أحدهما شاتين، فيرجع على الآخر بنصف إحدى الشّاتين لا غير، أمّا الأخرى فقد ذهبت من مال من أخذت منه، لأنّها إمّا أن يكون السّاعي أخذها وهو يعلم أنّ ليس له أخذها، فتكون غصباً، وإمّا أن يكون يرى أنّ أخذها حقّ شرعاً، فيكون أخذها جهلاً محضاً لا عبرة به ولا ينزّل منزلة حكم الحاكم، إذ حكم الحاكم بخلاف الإجماع ينقض‏.‏

وكذا إن أخذ السّاعي سنّاً أكبر من الواجب يرجع المأخوذ منه على خليطه بقيمة حصّته من السّنّ الواجبة، كما لو أخذ جذعةً عن ثلاثين من الإبل بين اثنين، يرجع المأخوذ منه بقيمة نصف بنت مخاض لأنّ الزّيادة ظلم‏.‏